فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}
التفسير:
إنه سبحانه ذكر في هذه السورة رداءة ما عليه جبلة الإنسان من قلة الشكر والصبر والحرص على المال بحيث يكاد يشغله عن تحصيل الكمال الحقيقي، وعن المعاد الذي إليه مآل حال العباد، فأقسم على ذلك بالأمور والتي هي مركوزة في خزانة خيالهم ولا تكاد تخلو في الأغلب عن الخطور ببالهم. وفي تفسيرها قولان مرويان: الأول أن العاديات هي الإبل. يروى عن ابن عباس أنه قال: بينا أنا جالس في الحجر إذ جاء رجل فسألني عن {العاديات ضبحًا} ففسرتها بالخيل فذهب إلى علي رضي الله عنه وهو بجنب سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام يعني بدرًا وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد.
{والعاديات ضبحًا} الإبل تعدو من عرفة إلى مزدلفة ومن المزدلفة إلى منى، والضبح على هذا مستعار لأن أصل استعماله في الخيل وهو صوت أنفاسها إذا عدون وهذا الصوت غير الصهيل وغير الحمحمة، وانتصابه على (يضبحن ضبحًا) أو بالعاديات لأن العدو لا يخلو عن الضبح، أو على الحال. وهكذا القول في {الموريات قدحًا} لأن الإبل قلما توري أخفافها. يقال: قدح فاورى وقدح فأصلد {فالمغيرات} أي المسرعات يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى {فأثرن} من الإثارة أي هيجن وهو حكاية الماضي أو هو نحو {ونادى} [الأعراف: 48] {وسيق} [الزمر: 72] {به} أو بالعدو أو بذلك الوقت {نقعًا} غبارًا {فوسطن} أي توسطن {به} بذلك الوقت أو بالعدو أو متلبسة بالنقع {جمعًا} وهو المزدلفة لاجتماع الحاج بها. القول الثاني عن مجاهد وقتادة والضحاك وأكثر المحققين أن العاديات الخيل، ويروى ذلك مرفوعًا.
قال الكلبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى ناس من كنانة فمكثت ما شاء الله أن تمكث لا يأتيه منهم خبر، فتخوف عليها فنزل جبرائيل بخبر مسيرها.
وعلى هذا فاللام في {العاديات} للعهد. ويحتمل أن يكون للجنس ويدخل خيل السرية فيها دخولًا أوليًا. وقوله: {فالمغيرات} على هذا يكون من أغار على العدو إذا شن عليهم الغارة والجمع جماعة الغزاة أو الكفرة.
وقيل: الإيراء عبارة عن شبيب نيران الحرب وإيقادها كقوله: {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله}
وقيل: معناه جمع ما في الصدور في الصحف أي أظهر محصلًا مجموعًا.
وقيل: يكشف ما في البواطن من الأخبار وما في الأستار من الأسرار ويندرج فيه أعمال الجوارح تبعًا. وإنما لم يقل ما في القلوب لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة اله تعالى إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلها ما يقرب من الصدر، وإنما جمع الضمير في قوله: {إن ربهم بهم} حملًا على معنى الإنسان. ومعنى تقييد العلم بذلك الزمان حيث قال: {يومئذ} وهو عالم بأحوالهم أزلًا وأبدًا التوبيخ وكأنه تعالى قال: إن من لم يكن عالمًا في الأزل فإنه يصير بعد الاختبار عالمًا، فالذي هو عالم في الأزل كيف لا يكون خبيرًا بهم في الأبد؟ ويجوز أن يكون سبب التقييد هو أن ذلك وقت المجازاة على حسب العلم بالأعمال والأقوال والأحوال وإليه المصير والمآب. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة والعاديات:
مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك.
وهي إحدى عشرة آية.
وأربعون كلمة.
ومائة وثلاثة وستون حرفًا.
{بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي نعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
وقوله سبحانه وتعالى: {والعاديات ضبحًا} قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون.
وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة:
والخيل تكدح حين تض ** بح في حياض الموت ضبحا

وانتصاب ضبحًا على يضبحن أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات ضبحًا لأنّ الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي: ضابحات، والعاديات جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو وهو المشي بسرعة.
وعن ابن عباس: كنت جالسًا في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحًا ففسرتها بالخيل فذهب إلى علي رضي الله عنه، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحًا الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى.
قال الزمخشري: فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك.
قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس.
ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفًا بأداة التعقيب:
{فالموريات قدحًا} قال عكرمة والضحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لاسيما عند سلوك الأوعار، وقدحًا منصوب لما انتصب به ضبحًا.
قال الزمخشري: ففيه الثلاثة أوجه المتقدّمة.
وعن ابن عباس: أورت بحوافرها غبارًا، وهذا إنما يناسب من فسر العاديات بالإبل.
وقال ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى فتخرج منه النار أصل القدح: الاستخراج، ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد.
وعن قتادة وابن عباس أيضًا: أنّ الموريات قدحًا الرجال في الحرب، والعرب تقول: إذا أرادوا أنّ الرجل يمكر بصاحبه والله لأمكرنّ بك ثم لأورين لك، وعن ابن عباس أيضًا: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل لحاجتهم وطعامهم، وعنه أيضًا: إنها نيران المجاهدين إذا كثرت إرهابًا ليظنهم العدوّ كثيرًا قال القرطبي: وهذه الأقوال مجاز كقولهم: فلان يوري زناد الضلالة والأوّل الحقيقة وأنّ الخيل من شدّة عدوها تقدح النار بحوافرها.
وقال مقاتل: تسمى تلك النار نار أبي حباب، وأبو حباب كان شيخًا من مضر في الجاهلية من أبخل الناس، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون فيوقد نويرة تقد مرّة وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحدا أطفأها كراهة أن ينتفع بها أحد، فشبهت العرب هذه النار بناره لأنه لا ينتفع بها.
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنده ذكر نتيجته وغايته بقوله: {فالمغيرات} أي: بإغارة أهلها وقوله تعالى: {صبحًا} ظرف، أي: التي تغير وقت الصبح يقال أغار بغير إغارة إذا باغت عدوّه لنهب أو قتل أو أسر، قال الشاعر:
فليت لي بهم قومًا إذا اركبوا ** شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا

وغار لغية.
{فأثرن} أي: فهيجن {به} أي: بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدّة العدو {نقعًا} أي: غبار الشدّة حركتهنّ والنقع الغبار.
تنبيه:
عطف الفعل وهو فأثرن على الاسم لأنه في تأويل الفعل لوقوعه صلة لأل.
وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.
{فوسطن به} أي: بذلك النقع أو العدو أو الوقت {جمعًا} من العدوّ، أي: صرن وسط العدو وهو الكتيبة، يقال: وسطت القوم بالتخفيف ووسطتهم بالتشديد، وتوسطتهم بمعنى واحد.
وقال القرطبي: يعني جمع منى وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أنّ الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة وتعريضه بإبل الحج للترغيب فيه، وفيه تعريض على من لم يحج بعد القدرة عليه كما في قوله تعالى: {ومن كفر} أي: من لم يحج {فإنّ الله غنيّ عن العالمين} (آل عمران)
وجواب القسم قوله تعالى: {إنّ الإنسان} أي: هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه {لربه} المحسن إليه بإبداعه ثم بإبقائه وتدبيره وتربيته {لكنود} قال ابن عباس: لكفور جحود لنعم الله تعالى.
وقال الكلبي: هو بلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كندة وحضرموت العاصي.
وقال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير والأرض الكنود التي لا تنبت شيئًا، وفي الحديث عن أبي أمامة هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده.
وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.
{وإنه} أي: الإنسان {على ذلك} أي: الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه {لشهيد} أي: يشهد على نفسه ولا يقدّر أن يجحده لظهور أثره عليه، أو أن الله تعالى على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد.
{وإنه} أي: الإنسان من حيث هو {لحب} أي: لأجل حب {الخير} أي: المال الذي لا يعدّ غيره لجهله خيرًا {لشديد} أي: بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأنّ منفعته في الدنيا، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأنّ أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه تعالى، ومع ذلك فهو لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة ربه وشكر نعمته ضعيف متقاعس.
ثم سبب عن ذلك قوله تعالى: {أفلا يعلم} أي: هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه {إذا بعثر} أي: انتثر بغاية السهولة وأخرج {ما في القبور} أي: من الموتى.
قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه.
قال محمد بن كعب: ذلك حين يبعثون..
فإن قيل: لِمَ قال: {ما في القبور} ولم يقل من، ثم قال بعد ذلك:
{إن ربهم بهم} أجيب: عن الأوّل بأنّ ما في الأرض غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأوّل ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
{وحُصِّل} أي: أخرج وجمع بغاية السهولة {ما في الصدور} من خير وشر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلًا، وظهر مكتوبًا في صحائف الأعمال وهذا يدل على أن النيات يحاسب عليها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. وتخصيص الصدر بذلك لأنه محله القلب.
{إن ربهم} أي: المحسن إليهم بخلقهم وخلقهم وتربيتهم {بهم يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة {لخبير} أي: لمحيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم فكيف بظواهرها ومعنى علمه بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وإلا فهو خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره فكيف ينبغي للعاقل أن يعلق آماله بالمال فضلًا عن أن يؤثره على الباقي. وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر حسنات من بات بالمزدلفة وشهد جمعًا» حديث موضوع. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}
العاديات جمع عادية.
وهي الجارية بسرعة، من العدو: وهو المشي بسرعة، فأبدلت الواو ياء لكسر ما قبلها كالغازيات من الغزو.
والمراد بها الخيل العادية في الغزو نحو العدوّ.
وقوله: {ضَبْحًا} مصدر مؤكد لاسم الفاعل.
فإن الضبح نوع من السير، ونوع من العدو.
يقال ضبح الفرس: إذا عدا بشدّة، مأخوذ من الضبع، وهو الدفع، وكأن الحاء بدل من العين.
قال أبو عبيدة، والمبرد: الضبح من إضباحها في السير ومنه قول عنترة:
والخيل تكدح في حياض الموت ضبحا

ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال، أي: ضابحات، أو ذوات ضبح، ويجوز أن يكون مصدرًا لفعل محذوف، أي: تضبح ضبحًا.
وقيل الضبح: صوت حوافرها إذا عدت.
وقال الفراء: الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت، قيل كانت تكعم لئلا تصهل، فيعلم العدوّ بهم، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوّة، وقيل الضبح: صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ليس بصهيل.
وقد ذهب الجمهور إلى ما ذكرنا من أن {العاديات ضبحًا} هي الخيل.
وقال عبيد بن عمير، ومحمد بن كعب والسديّ: هي الإبل، ومنه قول صفية بنت عبد المطلب:
فلا والعاديات غداة جمع ** بأيديها إذا صدع الغبار

ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح للثعلب، فاستعير للخيل، ومنه قول الشاعر:
تضبح في الكف ضباح الثعلب

{فالموريات قَدْحًا} هي الخيل حين توري النار بسنابكها.
والإيراء إخراج النار، والقدح الصكّ، فجعل ضرب الخيل بحوافرها كالقدح بالزناد.
قال الزجاج: إذا عدت الخيل بالليل، وأصاب حوافرها الحجارة انقدح منها النيران، والكلام في انتصاب {قدحًا} كالكلام في انتصاب {ضبحًا}، والخلاف في كونها الخيل أو الإبل، كالخلاف الذي تقدّم في العاديات.
والراجح أنها الخيل، كما ذهب إليه الجمهور، وكما هو الظاهر من هذه الأوصاف المذكورة في هذه السورة ما تقدّم منها وما سيأتي، فإنها في الخيل أوضح منها في الإبل، وسيأتي ما في ذلك من الخلاف بين الصحابة.
{فالمغيرات صُبْحًا} أي: التي تغير على العدوّ وقت الصباح، يقال أغار يغير إغارة إذا باغت عدوّه بقتل، أو أسر، أو نهب، وأسند الإغارة إليها وهي لأهلها للإشعار بأنها عمدتهم في إغارتهم، وانتصاب {صبحًا} على الظرفية.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} معطوف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، إذ المعنى: واللاتي عدون فأثرن، أو على اسم الفاعل نفسه لكونه في تأويل الفعل لوقوعه صلة للموصول، فإن الألف واللام في الصفات أسماء موصولة، فالكلام في قوّة: واللاتي عدون، فأورين، فأغرن، فأثرن، والنقع: الغبار الذي أثرته في وجه العدو عند الغزو، وتخصيص إثارته بالصبح؛ لأنه وقت الإغارة، ولكونه لا يظهر أثر النقع في الليل الذي اتصل به الصبح.
وقيل المعنى: فأثرن بمكان عدوهنّ نقعًا، يقال ثار النقع، وأثرته، أي: هاج، أو هيجته.
قرأ الجمهور: {فأثرن} بتخفيف المثلثة.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالتشديد، أي: فأظهرن به غبارًا، وقال أبو عبيدة: النقع رفع الصوت، وأنشد قول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق ** يجلبوها ذات جرس وزجل

يقول.
حين سمعوا صراخًا أجلبوا الحرب، أي: جمعوا لها.
قال أبو عبيدة: وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم انتهى، والمعروف عند جمهور أهل اللغة والمفسرين أن النقع: الغبار، ومنه قول الشاعر:
يخرجن من مستطار النقع دامية ** كأنّ أذنابها أطراف أقلام

وقول عبد الله بن رواحة:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ** تثير النقع من كنفي كداء

وقول الآخر:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

وهذا هو المناسب لمعنى الآية، وليس لتفسير النقع بالصوت فيها كثير معنى، فإن قولك أغارت الخيل على بني فلان صبحًا، فأثرن به صوتًا، قليل الجدوى مغسول المعنى بعيد من بلاغة القرآن المعجزة.
وقيل النقع: شقّ الجيوب، وقال محمد بن كعب: النقع ما بين مزدلفة إلى منى.
وقيل: إنه طريق الوادي.
قال في الصحاح: النقع الغبار، والجمع أنقاع، والنقع محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه، والنقع الأرض الحرّة الطين يستنقع فيها الماء.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أي: توسطن بذلك الوقت، أو توسطن ملتبسات بالنقع جمعًا من جموع الأعداء، أو صرن بعدوهن وسط جمع الأعداء، والباء إما للتعدية، أو للحالية، أو زائدة، يقال: وسطت المكان، أي: صرت في وسطه، وانتصاب جمعًا على أنه مفعول به، والفاآت في المواضع الأربعة للدلالة على ترتب ما بعد كل واحدة منها على ما قبلها.
قرأ الجمهور: {فوسطن} بتخفيف السين.
وقرئ بالتشديد.
{إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} هذا جواب القسم، والمراد بالإنسان بعض أفراده، وهو الكافر، والكنود: الكفور للنعمة.
وقوله: {لِرَبّهِ} متعلق بكنود.
قدّم لرعاية الفواصل، ومنه قول الشاعر:
كنود لنعماء الرجال ومن يكن ** كنودًا لنعماء الرجال يبعد

أي: كفور لنعماء الرجال.
وقيل: هو الجاحد للحقّ.
قيل: إنها إنما سميت كندة، لأنها جحدت أباها.
وقيل: الكنود مأخوذ من الكند.
وهو القطع، كأنه قطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر.
يقال كند الحبل: إذا قطعه، ومنه قول الأعشى:
وصول حبال وكنادها

وقيل: الكنود: البخيل، وأنشد أبو زيد:
إن نفسي لم تطب منك نفسا ** غير أني أمسي بدين كنود

وقيل: الكنود الحسود.
وقيل: الجهول لقدره، وتفسير الكنود بالكفور للنعمة أولى بالمقام؛ والجاحد للنعمة كافر لها، ولا يناسب المقام سائر ما قيل.
{وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي: وإن الإنسان على كنوده لشهيد يشهد على نفسه به لظهور أثره عليه.
وقيل المعنى: وإن الله جلّ ثناؤه على ذلك من ابن آدم لشهيد، وبه قال الجمهور.
وقال بالأوّل الحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب، وهو أرجح من قول الجمهور لقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} فإن الضمير راجع إلى الإنسان، والمعنى: إنه لحبّ المال قويّ مجدّ في طلبه، وتحصيله متهالك عليه، يقال هو شديد لهذا الأمر وقويّ له: إذا كان مطيقًا له، ومنه قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] ومنه قول عديّ بن حاتم:
ماذا ترجى النفوس من طلب ال ** خير وحبّ الحياة كاربها

وقيل المعنى: وإن الإنسان من أجل حب المال لبخيل، والأوّل أولى.
واللام في: {لِحُبّ} متعلقة بشديد.
قال ابن زيد: سمى الله المال خيرًا، وعسى أن يكون شرًّا، ولكن الناس يجدونه خيرًا، فسماه خيرًا.
قال الفراء: أصل نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحبّ للخير، فلما قدّم الحبّ قال: لشديد، وحذف من آخره ذكر الحبّ؛ لأنه قد جرى ذكره، ولرؤوس الآي كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] والعصوف للريح لا لليوم، كأنه قال: في يوم عاصف الريح.
{أَفَلاَ يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا في القبور} الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: يفعل ما يفعل من القبائح، فلا يعلم، و{بعثر} معناه نثر وبحث، أي: نثر ما في القبور من الموتى، وبحث عنهم وأخرجوا.
قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع جعلت أسفله أعلاه.
قال الفرّاء: سمعت بعض العرب من بني أسد يقول: بحثر بالحاء مكان العين، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4].
{وَحُصّلَ مَا في الصدور} أي: ميز وبيّن ما فيها من الخير والشرّ، والتحصيل التمييز، كذا قال المفسرون، وقيل: حصل أبرز.
قرأ الجمهور: {حصل} بضم الحاء، وتشديد الصاد مكسورًا مبنيًا للمفعول.
وقرأ عبيد بن عمير، وسعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم حصل بفتح الحاء والصاد، وتخفيفها مبنيًا للفاعل، أي: ظهر.
{إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} أي: إن ربّ المبعوثين بهم لخبير لا تخفى عليه منهم خافية، فيجازيهم بالخير خيرًا، وبالشرّ شرًّا.
قال الزجاج: الله خبير بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى: إن الله يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين يعلم الله مَا في قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] معناه: أولئك الذين لا يترك الله مجازاتهم.
قرأ الجمهور: {إن ربهم} بكسر الهمزة، وباللام في لخبير.
وقرأ أبو السماك بفتح الهمزة، وإسقاط اللام من {لخبير}.
وقد أخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلًا، فاستمرّت شهرًا لا يأتيه منها خبر، فنزلت: {والعاديات ضَبْحًا} ضبحت بأرجلها.
ولفظ ابن مردويه: ضبحت بمناخرها.
{فالموريات قَدْحًا} قدحت بحوافرها الحجارة، فأورت نارًا.
{فالمغيرات صُبْحًا} صبحت القوم بغارة.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أثارت بحوافرها التراب.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} صبحت القوم جميعًا.
وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى العدوّ، فأبطأ خبرها، فشقّ ذلك عليه، فأخبره الله خبرهم، وما كان من أمرهم، فقال: {والعاديات ضَبْحًا}. قال: هي الخيل». والضبح نخير الخيل حين تنخر.
{فالموريات قَدْحًا} قال: حين تجري الخيل توري نارًا أصابت بسنابكها الحجارة.
{فالمغيرات صُبْحًا} قال: هي الخيل أغارت، فصبحت العدوّ {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} قال: هي الخيل أثرن بحوافرها، يقول تعدو الخيل، والنقع الغبار.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال: الجمع العدو.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: تقاولت أنا، وعكرمة في شأن العاديات، فقال: قال ابن عباس: هي الخيل في القتال، وضبحها حين ترخي مشافرها إذا عدت {فالموريات قَدْحًا} أرت المشركين مكرهم.
{فالمغيرات صُبْحًا} قال: إذا صبحت العدو {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال: إذا توسطت العدو.
وقال أبو صالح: فقلت قال علي: هي الإبل في الحج ومولاي كان أعلم من مولاك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب الأضداد، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل يسأل عن {العاديات ضبحًا}، فقلت: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم، فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالب، وهو جالس تحت سقاية زمزم، فسأله عن {العاديات ضبحًا}، فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم سألت عنها ابن عباس، فقال: هي الخيل حين تغير في سبيل الله، فقال: اذهب، فادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام لبدر، وما كان معنا إلاّ فرسان فرس للزبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون {والعاديات ضَبْحًا}.
إنما العاديات ضبحًا من عرفة إلى المزدلفة، فإذا أووا إلى المزدلفة أوقدوا النيران، والمغيرات صبحًا: من المزدلفة إلى منى، فذلك جمع، وأما قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} فهي: نقع الأرض تطؤه بأخفافها وحوافرها.
قال ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود: {والعاديات ضَبْحًا} قال: الإبل. أخرجه عنه من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي.
قال إبراهيم: وقال علي بن أبي طالب: هي الإبل، وقال ابن عباس هي الخيل.
فبلغ عليًا قول ابن عباس: فقال: ما كانت لنا خيل يوم بدر.
قال ابن عباس: إنما كانت تلك في سرية بعثت، وأخرج عبد بن حميد عن عامر الشعبي قال: تمارى على، وابن عباس في {العاديات ضبحًا} فقال ابن عباس: هي الخيل؛ وقال علي: كذبت يا ابن فلانة، والله ما كان معنا يوم بدر فارس إلاّ المقداد كان على فرس أبلق.
قال: وكان يقول هي: الإبل، فقال ابن عباس: ألا ترى أنها تثير نقعًا، فما شيء تثير إلاّ بحوافرها.
وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس {والعاديات ضَبْحًا} قال: الخيل.
{فالموريات قَدْحًا} قال: الرجل إذا أورى زنده.
{فالمغيرات صُبْحًا} قال: الخيل تصبح العدوّ.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} قال: التراب.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال: العدوّ.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد: {والعاديات ضَبْحًا} قال: قال ابن عباس: القتال.
وقال ابن مسعود: الحج.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن ابن عباس {والعاديات ضَبْحًا} قال: ليس شيء من الدواب يضبح إلاّ الكلب، أو الفرس.
{فالموريات قَدْحًا} قال: هو مكر الرجل قدح، فأورى.
{فالمغيرات صُبْحًا} قال: غارة الخيل صبحًا.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} قال: غبار وقع سنابك الخيل.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال: جمع العدوّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {والعاديات ضَبْحًا} قال: الخيل ضبحها زحيرها.
ألم تر أن الفرس إذا عدا قال: أح أح، فذلك ضبحها.
وأخرج ابن المنذر عن علي قال: الضبح من الخيل الحمحمة، ومن الإبل النفس.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود: {والعاديات ضَبْحًا} قال: هي الإبل في الحج.
{فالموريات قَدْحًا} إذا سفت الحصى بمناسمها، فضرب الحصى بعضه بعضًا، فيخرج منه النار.
{فالمغيرات صُبْحًا} حين يفيضون من جمع.
{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} قال: إذا سرن يثرن التراب.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: الكنود بلساننا أهل البلد الكفور.
وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} قال لكفور.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في الأدب، والحكيم الترمذي، وابن مردويه عن أبي أمامة قال: الكنود الذي يمنع رفده، وينزل وحده، ويضرب عبده.
ورواه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والديلمي، وابن عساكر مرفوعًا، وضعف إسناده السيوطي، وفي إسناده جعفر بن الزبير، وهو متروك، والموقوف أصح؛ لأنه لم يكن من طريقه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال: الإنسان {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} قال: المال.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه: {إِذَا بُعْثِرَ مَا في القبور} قال: بحث {وَحُصّلَ مَا في الصدور} قال: أبرز. اهـ.